التخطي إلى المحتوى

العالمي : إلى مؤتمر مستقبل الدراما المصرية

العالمي : إلى مؤتمر مستقبل الدراما المصرية
العالمي : إلى مؤتمر مستقبل الدراما المصرية


العالمي : إلى مؤتمر مستقبل الدراما المصرية

ليست الدراما مجرد ضرب من ضروب الترفيه، بل هي أداة مركزية في تشكيل الوعي الإنساني وإطلاق قوى التفكير وطرح التساؤلات وإحداث التغيير الاجتماعي”، تلك هي كلمات الكاتب والروائي الجنوب إفريقي الشهير أثول فوجارد مؤكداً الأهمية المركزية للدراما في المجتمع، أيّ مجتمع، إذا ما حسُن توظيفها لتلامس نبض هذا المجتمع ولتأتي انعكاساً صادقاً لقضاياه، وتعبيراً عن همومه وطموحاته وآماله في مستقبل أفضل، عبر مساءلة إخفاقاته وإعادة صياغة وجدانه الجمعي بما يتفق وقناعاته المركزية: الإنسانية أو الدينية أو القومية.

غير أن ما حدث في راهننا الحالي، هو سقوط بعض الأعمال الدرامية لهوة سحيقة من الاضمحلال والانحدار القيمي والأخلاقي، وتواترت الألفاظ المبتذلة والسوقية داخلها بشكل غير مسبوق، حيث يجرى استخدام لغة خادشة للحياء وللذوق العام بشكل فج، وشيوع مشاهد وسلوكيات العنف والبلطجة والعري، والأمر المثير أنه يجري الترويج لذلك عبر التحجُّج بأطروحة “الجمهور عايز كدة”، وأن ذلك يجري وفقاً لنظرية (الاستخدامات والإشباعات) الشهيرة.

فبدلاً من أن تأخذ الدراما بقيم المجتمع لأعلى عبر السمو بأخلاقياته صوب المُثل العليا وتعميق هويته وإنعاش ذاكرته الوطنية، أضحت أداة لاضمحلال قيمي وتحلل مجتمعي عام، كذلك ما تطرحه من رؤى ظلامية ساهمت في إنتاج واقع مُفعم بالمادية النفعية والصراع، فقد تم عبر بعض هذه الأعمال الدرامية حقن شرايين المجتمع بجرعات عالية من الانحطاط والكراهية وتغذية الصراعات الطائفية والمذهبية داخله.

وربما يأتي ذلك كله تزامناً مع انتشار الفلسفات والقيم السلبية المصاحبة لحقبة ما بعد الحداثة وما صاحبها من انهيار قيمي وأخلاقي واسع، فلا ثوابت أخلاقية يمكن الدفاع عنها، ولا قيم عُليا يمكن الموت من أجلها، فكل الأمور أضحت نسبية، والمطلق الوحيد هو التغيير المستمر الفاقد للغاية والمعنى.

وهي قيم وافدة علينا، يتحتم التصدي لها عبر تأكيد منظومتنا القيمية المتفردة التي طالما حفظت هويتنا طويلاً، وكان لها الدور المركزي في تعميق تلاحمنا المجتمعي على مر السنين.

والحقيقة أنه ومن أجل إعادة بعث الدراما المصرية لتعود لعنفوانها الإبداعي مرة أخرى علينا التحرك بقوة في مسارات عدة، لعل أبرزها:

حتمية معالجة أزمة الاستنساخ والقولبة، فكل الأعمال متشابهة، كما كل الوجوه متشابهة، فهي إذن نمطية مقيتة علينا الخلاص منها عبر تفجير مكامن الإبداع وتحديداً لدى المخرجين والكتاب الشباب عبر تدريبهم على يد أهل التخصص والخبرة والكفاءة.

لا يجب ترك الأمور لشركات إنتاج غير مصرية لتقدم مضامين سلبية من شأنها العبث بهوية المجتمع وقيمه والإضرار بسلم أولوياته، وذلك كما حدث في السنوات القليلة الماضية.

إشكالية الاهتمام بالجانب التجاري وتحقيق الأرباح المادية حتى لو جاء ذلك على حساب الجانب الإبداعي، وهو ما يقود إلى إنتاج ما يسمى بدراما المقاولات الفاقدة للعمق والقيمة، كان ألبرت آينشتاين يردد ” حاول ألا تكون رجل النجاح بل رجل القيمة”، غير أن ما نتغياه هو في الذهاب بعيداً وتحقيق القيمة والنجاح معاً، وهي، معادلة ليست بالمستحيلة في عالم الإنتاج الدرامي إذا ما جرى العمل وفق استراتيجية جيدة تسعى للتوفيق بين متعة العرض وجاذبيته وغائية المضمون وجديته.

الكف عما يسمى بورش كتابة السيناريو التي أنتجت سيناريوهات ضحلة هي أقرب إلى الوجبات السريعة، التي ضررها هو أكثر من نفعها، والتي كثيراً ما تقوم بكتابة السيناريو على عجل ووقت التصوير فيأتي سطحياً مبتذلاً دون عمق فكري حقيقي، أضف إلى ذلك ضعف النصوص وهشاشة البناء الدرامي.

من المهم عقد عدد من بروتوكولات التعاون مع مؤسسات أكاديمية ومراكز بحثية متخصصة لتطوير المحتوى الدرامي وإجراء الأبحاث الأكاديمية واستطلاعات الرأي وقياس رجع الصدى حول الأعمال الدرامية المقدمة.

أهمية عقد مؤتمر سنوي دوري لمناقشة التجربة على مدار العام وتقييم نجاحاتها وإخفاقاتها وسبل تطويرها نحو الأفضل.

فيما يتعلق بالتمويل، فالحقيقة المؤكدة أنه ليس هناك أزمة في التمويل بدليل العدد الضخم من الأعمال الدرامية التي يجري إنتاجها كل عام وخاصة في رمضان، فالعبرة ليست في الكم لكنها في الكيف، أي في الإبداع والجودة شكلاً ومضموناً.

الملاحظة المركزية في الأعمال الدرامية السابق تقديمها هي غياب وتهميش دور الطبقة الوسطى داخل تلك الأعمال الدرامية، فأضحت تتأرجح بين ثنائية حادة: أثرياء أو فقراء ومهمشين، حياة القصور الفارهة أو الحارات والعشش والأكواخ، الأولى حيث السرقات وغسيل الأموال والانحلال الخلقي، والثانية حيث العنف والبلطجة، في حين غابت الطبقة الوسطى تماماً تلك الطبقة التي تضم العلماء والمثقفين والمفكرين الذين لديهم القدرة على إحداث التغير الحقيقي في أي مجتمع.

نعتقد أنه من أجل التغلب على إشكالية ضعف القضية المطروحة درامياً وضحالة السيناريو، أنه علينا الذهاب مباشرة للأعمال الأدبية والفكرية الكبرى وتحويلها لأعمال درامية، على أن تجري عملية صياغة السيناريو بحرفية عالية كي لا يجري تفريغ القضية المطروحة داخل العمل من مضمونها العميق.

على الدراما أن تُحلِّق بالمشاهد نحو أفق إنساني رحب حيث تسامي الغرائز في معارج الروح، وأن تُهدِّئ من هواجسه الميتافيزيقية وشعوره بالاغتراب الناجم عن أزمة المعنى، وأن تتمركز حول القيم الإنسانية العامة: قيم الحق والخير والجمال، وقيم الحرية والمواطنة واحترام المرأة والأقليات والأديان وغيرها وعدم التمييز على أُسس العرق أو الدين أو اللون أو الجنس.

من المهم السعي نحو تقديم القدوة والمثل، ذلك الذي نفتقده كثيراً في أيامنا هذه، عبر إنتاج سلسلة من الأعمال الدرامية التي تتناول السير الذاتية للشخصيات التاريخية والوطنية والإنسانية العظيمة، وهو أمر يتطلب إعادة قطاع الإنتاج بالتليفزيون المصري إلى سابق عهده في إنتاج مثل تلك الأعمال الملحمية والرسالية، تلك التي لا يقبل عليها القطاع الخاص.

حقيقة أن هناك أعمالاً متميزة جرى إنتاجها في السنوات الأخيرة غير أنه لم يتم الترويج لها جيداً، في المقابل، نجد أعملاً درامية سطحية ومبتذلة وقد حققت جماهيرية كبيرة نتيجة للآلة الدعائية الضخمة المصاحبة ومشاركة وتعليق الكثير من الحسابات الزائفة والمدفوعة التي جرى إنشاؤها على السوشيال ميديا خصيصاً لهذا الغرض اعتماداً على استراتيجية سلوك القطيع، من هنا أهمية الشروع في إنتاج حملات دعائية مصاحبة، وبخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي (أي توظيف الثورة الرقمية)، للترويج لتلك الأعمال الدرامية الجيدة التي سيجري إنتاجها وعرض مقتطفات منها وآراء النقاد والجماهير فيها وما تتسم به من أبعاد إبداعية.

إشكالية مركزية أخرى تعاني منها الدراما الحالية، وهي تغوُّل البطل على العمل الدرامي، إذ يجري تفصيل رواية وسيناريو ما ليناسب البطل الذي تم اختياره مسبقاً، بل ويقوم هو الآخر، أي البطل، بإحداث تغييرات جوهرية في السيناريو والإخراج لتدور جميعها في إطار تفخيمه وتعظيمه وتأكيد نجوميته في مقابل تقزيم الأخرين، ولو جاء ذلك على حساب المستوى الفني والإبداعي للعمل الدرامي، من هنا أهمية إعادة الاعتبار للكاتب ووضعه في المقدمة مع الالتزام بالمعايير العالمية في الإنتاج والإخراج.

من الأهمية بمكان السعي الحثيث نحو توظيف ممكنات الذكاء الصناعي والتقدم التكنولوجي الهائل في تحقيق جودة وجاذبية عالية للمنتج الدرامي الذي يراد إنتاجه.

تأكيد دور الدراما في الترويج لمعالمنا السياحية والأثرية عبر الخروج للتصوير في تلك الأماكن، وذلك بما يخدم اقتصادنا القومي في محورين مركزيين: المحور الأول جذب السائحين لزيارة تلك الأماكن السياحية والأثرية التي شاهدوها في الأعمال الدرامية، والمحور الثاني لتكون قبلة للمخرجين والمنتجين العالميين لتصوير أعمالهم الفنية بتلك الأماكن.

أعتقد أنه قد انتهى عصر اللجان المتخصصة في الرقابة على الأعمال الدرامية بشكلها التقليدي، فإعادة إحيائها هي فكرة غير جيدة، لكنه يمكن الاستعانة بلجان من الأكاديميين والمبدعين ليكون دورها استشارياً من أجل تطوير العمل (شكلاً ومضموناً) ومن أجل تعميق أطروحاته.

علينا أن نُقدِّم أعمالاً درامية من شأنها تفجير الملكات النقدية لدى المشاهد وتوريطه في القضية المطروحة عقلياً ومعرفاً، فها هو الكاتب المسرحي الشهير هنريك إبسن يقول: ” علينا أن نطرح الأسئلة، وليس علينا أن نقدم الحلول والإجابات الجاهزة”، فالفن الحقيقي ليس نقلاً فوتوغرافياً للواقع بقدر ما هو استجابة جمالية إبداعية لحيثيات هذا الواقع وإيقاظ الخيال لدى المشاهد لطرح التساؤلات حول ممكنات تغييره للأفضل.

وفي التحليل الأخير فإن ما نتغياه هو إنتاج أعمال درامية من شأنها إشهار غصن الزيتون وورود المحبة في وجه سيف الكراهية، وإعلاء قيم التراحم والتسامح في وجه تِنّين الانتقام، وتأجيج قوى الأمل في وجه جحافل العجز واليأس، وإيقاظ عالم الروح الذي اغتالته الأطروحات المادية في صيغتها ما بعد الحداثية.

وإذا ما كانت الدراما هي أداة لوصف حيثيات الواقع، فهي أيضاً الرغبة العارمة في تجاوز هذا الواقع ومن ثم معانقة الخيال، أن ترنو صوب المُثُل العليا تأسيساً على مفردات الواقع وممكناته، فالدراما بقدر ما هي صدى صوت أنين المعذبين هي أيضا ترجمة لهمس أحلام وطموحات المبدعين والمفكرين.

ما نريده هو تدشين عصر جديد للدراما بوصفها ثورة على كل ما هو قبيح في هذا العالم، والإيمان بأن « الجمال هو ما سينقذ العالم” كما كان يردد أديبنا الكبير فيودور دوستويفسكي، من هنا يمكن أن تتأسس دراما عالمية ذات أبعاد جمالية وذات هم إنساني مشترك في آن، أن تصبح ملاذاً آمناً للهاربين من جحيم الحداثة بكل نفعيته ولا قيميته، وتجذير قيمة الحب في المجتمع الإنساني كقيمة مركزية».

في تلك اللحظة ستكون تلك الدراما «بأبعادها الفنية والجمالية والإنسانية» قابلة للتصدير لبلدان أخرى ومن ثم حتمية ترجمة الجيد منها للغات عدة لتقوم بدورها كمصدر دخل للاقتصاد المصري وكقوة ناعمة لوطن يسعى لأن يستعيد رونق حضارته ومهامه المركزية في منطقة الشرق الأوسط.

كما أنه عليها، أي الدراما، أن تكون خط الدفاع الأول عن الهوية الوطنية والتلاحم المجتمعي ضد محاولات التفتيت وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية بقصد بلقنة بلداننا وتمزيقها لدويلات وكيانات متناحرة.

ومن ناحية أخرى فعلى الدراما أن تتخذ موقفاً احتجاجياً ضد إخفاقات هذا العالم بحروبه وصراعاته المتفاقمة وطرح سيناريوهات من شأنها دفع مستقبله نحو الأفضل.

كما أنها يجب أن تصبح أداة قوية في مواجهة من يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة(دينية كانت أم قومية) وتعرية منطقهم المغلوط، ذلك المنطق الذي قاد إلى تأجيج الصراعات في جنبات المجتمع، ومن ثم علينا أن نُعيد الاعتبار للدراما كأداة بناء وليس وسيلة هدم، بناء الوعى العام الذي هو إنساني وقيمي وتراحمي بالضرورة.

ومن دون شك فإن التخوف الحقيقي والمركزي لدينا هو من الهجرة الجماعية، هجرة المُشاهد، لدراما بديلة تُروِّج لأحلام ومطامع أيديولوجية وطموحات إمبريالية لدول تريد إعادة بعث ماضيها على ركام حاضرنا.

وفي النهاية دعنا نردد مع برجينسكي قوله: «التليفزيون يقوم بدور يفوق دور المدرسة والمؤسسات الدينية والجيوش».

اقرأ أيضاًليس بمقال.. بل فضفضة عامة وبحث عن شغف الحياة المفقود في ثنايا أرواحنا

«الحال أبلغ من المقال».. الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة

العالمي : إلى مؤتمر مستقبل الدراما المصرية

العالمي : إلى مؤتمر مستقبل الدراما المصرية #إلى #مؤتمر #مستقبل #الدراما #المصرية